كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً}..
وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة.. فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون، والذين آمنوا يزيدون إيماناً، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون: {ماذا أراد الله بهذا مثلاً}.. فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب. ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق. ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة..
{كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء}..
كذلك. بذكر الحقائق وعرض الآيات. فتتلقاها القلوب المختلفة تلقياً مختلفاً. ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله. فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء. وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج، للهدى والضلال؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك، في حدود المشيئة الطليقة، ووفق حكمة الله المكنونة.
وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصوراً كاملاً واسع المدلول، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة.
وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة! بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة!
لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال. وحدد لنا نهجاً نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز. وبيّن لنا نهوجاً ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر. ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئاً، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا. وقال لنا: إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة.. فعلينا أن نعالج بقدر طاقتنا تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة. وأن نلتزم النهج الهادي ونتجنب النهوج المضللة. ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون. ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهداً ضائعاً لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه..
إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه. وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا. والذي سيكون هو مشيئته، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه! والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق.. وهو الله وحده.. وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر..
{وما يعلم جنود ربك إلا هو}..
فهي غيب. حقيقتها. ووظيفتها. وقدرتها.. وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها، وقوله هو الفصل في شأنها. وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه، فليس إلى معرفة هذا من سبيل..
{وما هي إلا ذكرى للبشر}..
{وهي} إما أن تكون هي جنود ربك، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها. وهي من جنود ربك. وذكرها جاء لينبه ويحذر؛ لا لتكون موضوعاً للجدل والمماحكة! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلاً!
ويعقب على هذه الوقفة التقريرية لهذه الحقيقة من حقائق الغيب، ولمناهج التصور الهادية والمضللة.. يعقب على هذا بربط حقيقة الآخرة، وحقيقة سقر، وحقيقة جنود ربك، بظواهر الوجود المشهودة في هذا العالم، والتي يمر عليها البشر غافلين، وهي تشي بتقدير الإرادة الخالقة وتدبيرها، وتوحي بأن وراء هذا التقدير والتدبير قصداً وغاية، وحساباً وجزاء:
{كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذآ أسفر إنها لإحدى الكبر نذيراً للبشر} ومشاهد القمر، والليل حين يدبر، والصبح حين يسفر.. مشاهد موحية بذاتها، تقول للقلب البشري أشياء كثيرة؛ وتهمس في أعماقه بأسرار كثيرة؛ وتستجيش في أغواره مشاعر كثيرة.
والقرآن يلمس بهذه الإشارة السريعة مكامن هذه المشاعر والأسرار في القلوب التي يخاطبها، على خبرة بمداخلها ودروبها!
وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد القمر حين يطلع يسري وحين يغيب.. ثم لا يعي عن القمر شيئاً يهمس له به من أسرار هذا الوجود! وإن وقفة في نور القمر أحياناً لتغسل القلب كما لو كان يستحم بالنور!
وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد الليل عند إدباره، في تلك الهدأة التي تسبق الشروق، وعندما يبدأ هذا الوجود كله يفتح عينيه ويفيق.. ثم لا ينطبع فيه أثر من هذا المشهد وتدب في أعماقه خطرات رفافة شفافة.
وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد الصبح عند إسفاره وظهوره، ثم لا تنبض فيه نابضة من إشراق وتفتح وانتقال شعوري من حال إلى حال، يجعله أشد ما يكون صلاحية لاستقبال النور الذي يشرق في الضمائر مع النور الذي يشرق في النواظر.
والله الذي خلق القلب البشري يعلم أن هذه المشاهد بذاتها تصنع فيه الأعاجيب في بعض الأحايين، وكأنها تخلقه من جديد.
ووراء هذه الانبعاثات والإشراقات والاستقبالات ما في القمر، وما في الليل، وما في الصبح من حقيقة عجبية هائلة يوجه القرآن إليها المدارك، وينبه إليها العقول. ومن دلا لة على القدرة المبدعة والحكمة المدبرة، والتنسيق الإلهي لهذا الكون، بتلك الدقة التي يحير تصورها العقول.
ويقسم الله سبحانه بهذه الحقائق الكونية الكبيرة لتنبيه الغافلين لأقدارها العظيمة، ودلالاتها المثيرة. يقسم على أن {سقر} أو الجنود التي عليها، أو الآخرة وما فيها، هي إحدى الأمور الكبيرة العجيبة المنذرة للبشر بما وراءهم من خطر:
{إنها لإحدى الكبر نذيراً للبشر}..
والقسم ذاته، ومحتوياته، والمقسم عليه بهذه الصورة.. كلها مطارق تطرق قلوب البشر بعنف وشدة، وتتسق مع النقر في الناقور، وما يتركه من صدى في الشعور. ومع مطلع السورة بالنداء الموقظ: {يا أيها المدثر} والأمر بالنذارة: {قم فأنذر}.. فالجو كله نقر وطرق وخطر!!
وفي ظل هذه الإيقاعات المثيرة الخطيرة يعلن تبعة كل نفس لذاتها وعلى ذاتها؛ ويدع للنفوس أن تختار طريقها ومصيرها؛ ويعلن لها أنها مأخوذة بما تكسبه باختيارها، مرهونة بأعمالها وأوزارها:
{لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر كل نفس بما كسبت رهينة}..
فكل فرد يحمل همَّ نفسه وتبعتها، ويضع نفسه حيث شاء أن يضعها، يتقدم بها أو يتأخر، ويكرمها أو يهينها. فهي رهينة بما تكسب، مقيدة بما تفعل. وقد بين الله للنفوس طريقة لتسلك إليه على بصيرة، وهو إعلان في مواجهة المشاهد الكونية الموحية، ومشاهد سقر التي لا تبقي ولا تذر.. له وقعه وله قيمته!
وعلى مشهد النفوس الرهينة بما كسبت، المقيدة بما فعلت، يعلن إطلاق أصحاب اليمين من العقال، وإرسالهم من القيد، وتخويلهم حق سؤال المجرمين عما انتهى بهم إلى هذا المصير:
{إلا أصحاب اليمين في جنات يتسآءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخآئضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين}.
وانطلاق أصحاب اليمين وانفلاتهم من الرهن والقيد موكول إلى فضل الله الذي يبارك حسناتهم ويضاعفها. وإعلان ذلك في هذا الموقف وعرضه يلمس القلوب لمسة مؤثرة. يلمس قلوب المجرمين المكذبين، وهم يرون أنفسهم في هذا الموقف المهين، الذي يعترفون فيه فيطيلون الاعتراف، بينما المؤمنون الذين كانوا لا يحفلونهم في الدنيا، ولا يبالونهم، في موقف الكرامة والاستعلاء، يسألونهم سؤال صاحب الشأن المفوض في الموقف: {ما سلككم في سقر}.. ويلمس قلوب المؤمنين الذين كانوا يلاقون من المجرمين ما يلاقون في الأرض، وهم يجدون أنفسهم اليوم في هذا المقام الكريم وأعداءهم المستكبرين في ذلك المقام المهين.. وقوة المشهد تلقي في نفوس الفريقين أنه قائم اللحظة وأنهم فيه قائمون.. وتطوي صفحة الحياة الدنيا بما فيها كأنه ماض انتهى وولى!
والاعتراف الطويل المفصل يتناول الجرائر الكثيرة التي انتهت بالمجرمين إلى سقر، يعترفون بها هم بألسنتهم في ذلة المستكين أمام المؤمنين:
{قالوا لم نك من المصلين}.. وهي كناية عن الإيمان كله، تشير إلى أهمية الصلاة في كيان هذه العقيدة، وتجعلها رمز الإيمان ودليله، يدل إنكارها على الكفر، ويعزل صاحبها عن صف المؤمنين.
{ولم نك نطعم المسكين}.. وهذه تلي عدم الإيمان، بوصفها عبادة الله في خلقه، بعد عبادته سبحانه في ذاته. ويدل ذكرها بهذه القوة في مواضع شتى على الحالة الاجتماعية التي كان القرآن يواجهها، وانقطاع الإحسان للفقير في هذه البيئة القاسية، على الرغم من الفخر بالكرم في مواضع المفاخرة والاختيال، مع تركه في مواضع الحاجة والعطف الخالص البريء.
{وكنا نخوض مع الخائضين}.. وهي تصف حالة الاستهتار بأمر العقيدة، وحقيقة الإيمان، وأخذها مأخذ الهزل واللعب والخوض بلا مبالاة ولا احتفال. وهي أعظم الجد وأخطر الأمر في حياة الإنسان؛ وهي الشأن الذي ينبغي أن يفصل فيه ضميره وشعوره قبل أن يتناول أي شأن آخر من شؤون هذه الحياة، فعلى أساسها يقوم تصوره وشعوره وقيمه وموازينه. وعلى ضوئها يمضي في طريق الحياة. فكيف لا يقطع فيها برأي ولا يأخذها مأخذ الجد؟ ويخوض فيها مع الخائضين، ويلعب فيها مع اللاعبين؟
{وكنا نكذب بيوم الدين} وهذه أس البلايا. فالذي يكذب بيوم الدين تختل في يده جميع الموازين، وتضطرب في تقديره جميع القيم، ويضيق في حسه مجال الحياة، حين يقتصر على هذا العمر القصير المحدود في هذه الأرض؛ ويقيس عواقب الأمور بما يتم منها في هذا المجال الصغير القصير، فلا يطمئن إلى هذه العواقب، ولا يحسب حساب التقدير الأخير الخطير.. ومن ثم تفسد مقاييسه كلها ويفسد في يده كل أمر من أمور هذه الدنيا، قبل أن يفسد عليه تقديره للآخرة ومصيره فيها.
وينتهي من ثم إلى شر مصير.
والمجرمون يقولون: إننا ظللنا على هذه الأحوال، لا نصلي، ولا نطعم المسكين، ونخوض مع الخائضين، ونكذب بيوم الدين..
{حتى أتانا اليقين}.. الموت الذي يقطع كل شك وينهي كل ريب، ويفصل في الأمر بلا مرد.. ولا يترك مجالاً لندم ولا توبة ولا عمل صالح.. بعد اليقين..
ويعقب السياق على الموقف السيئ المهين، بقطع كل أمل في تعديل هذا المصير:
{فما تنفعهم شفاعة الشافعين}..
فقد قضي الأمر، وحق القول، وتقرر المصير، الذي يليق بالمجرمين المعترفين! وليس هنالك من يشفع للمجرمين أصلاً. وحتى على فرض ما لا وجود له فما تنفعهم شفاعة الشافعين!
وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة، يردهم إلى موقف في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف؛ وهم يصدون عنها ويعرضون، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب:
{فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة}..
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفرة تفر في كل اتجاه، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه.. مشهد يعرفه العرب. وهو مشهد عنيف الحركة. مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون! حين يخافون! فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكراً يذكرهم بربهم وبمصيرهم، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين، وذلك المصير العصيب الأليم؟!
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون، تتملاه النفوس، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل، ويطامنون من الإعراض والنفار، مخافة هذا التصوير الحي العنيف!
تلك هيئتهم الخارجية. {حمر مستنفرة فرت من قسورة} ثم لا يدعهم حتى يرسم نفوسهم من الداخل، وما يعتلج فيها من المشاعر:
{بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة}..
فهو الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يختاره الله ويوحي إليه؛ والرغبة الملحة أن ينال كل منهم هذه المنزلة، وأن يؤتى صحفاً تنشر على الناس وتعلن.. ولابد أن الإشارة هنا كانت بصدد الكبراء الذين شق عليهم أن يتخطاهم الوحي إلى محمد بن عبد الله، فقالوا: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}.. ولقد علم الله أين يضع رسالته واختار لها ذلك الإنسان الكريم الكبير العظيم. فكان الحنق الذي يغلي في الصدور، والذي يكشف عنه القرآن، وهو يعلل ذلك الشماس والنفار!
ثم يستمر في رسم صورة النفوس من داخلها، فيضرب عما ذكره من ذلك الطمع والحسد، ويذكر سبباً آخر للإعراض والجحود. وهو يردع في نفوسهم ذلك الطمع الذي لا يستند إلى سبب من صلاح ولا من استعداد لتلقي وحي الله وفضله:
{كلا بل لا يخافون الآخرة}.
وعدم خوفهم من الآخرة هو الذي ينأى بهم عن التذكرة، وينفرهم من الدعوة هذه النفرة. ولو استشعرت قلوبهم حقيقة الآخرة لكان لهم شأن غير هذا الشأن المريب!
ثم يردعهم مرة أخرى، وهو يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة، ويدعهم لما يختارون لأنفسهم من طريق ومصير:
{كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره}..
إنه، هذا القرآن الذي يعرضون عن سماعه، وينفرون كالحمر، وهم يضمرون في أنفسهم الحسد لمحمد، والاستهتار بالآخرة.. إنه تذكرة تنبه وتذكر. فمن شاء فليذكر. ومن لم يشأ فهو وشأنه، وهو ومصيره، وهو وما يختار من جنة وكرامة، أو من سقر ومهانة..
وبعد أن يثبت مشيئتهم في اختيار الطريق يعقب بطلاقة المشيئة الإلهية، وعودة الأمور إليها في النهاية. وهي الحقيقة التي يحرص القرآن على تقريرها في كل مناسبة لتصحيح التصور الإيماني من ناحية طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها الكامل الأخير، وراء جميع الأحداث والأمور: